"إتيمولوجيا الحكامة"، بقلم ذ: محمد البكوري، دكتور في الحقوق، باحث في الحكامة والمجتمع المدني

انشرها على:


"إتيمولوجيا الحكامة"

بقلم ذ: محمد البكوري
دكتور في الحقوق
باحث في الحكامة والمجتمع المدني 

"إتيمولوجيا الحكامة"
 يتميز  كل عصر بزخم واسع  من  التيمات  الجديدة، والتي تروج  بقوة داخل  المجتمع  التداولي بين الأفراد  والمؤسسات، بيد  أن هذه الهيمنة "التيمولوجية" غالبا ما تلفها  خصائص مبهمة  أو عناصر ملتبسة،  تزيد بشكل أو بآخر،  من "حريائية" المفاهيم  وتلونها،  حسب المسارات  المختلفة  والسياقات المتنوعة ، سواء كان ذلك بقصد  معرفي/ ابيستيمي أو بدون أدنى أي  قصد.  على ضوء ذلك، يلاحظ  أنه كثيرا ما  يتم  استخدام المصطلحات المتداولة كتيمات سائدة ومهيمنة،  دون العمل- وبجدية بحثية-  على التحديد الدقيق  للمعنى  المكتنز في دواخلها وكذا أبعاده العميقة  التي قد يعج بها .  هذه الملاحظة، تنطبق في تجلياتها في سائر  العصور، بما فيها العصر الحاضر المتسم  بانبثاق منظومة "إتيمولوجية" هائلة  ومخترقة للكينونة  الإنسانية برمتها – خاصة  إبان فترة ما بعد الحرب الباردة-   حيث  خرجت  إلى  حيز الوجود  العديد من المصطلحات "البراقة"،  والتي وقع تداولها بكثافة من قبيل : العولمة،  الشمولية، محاربة الإرهاب، الفوضى الخلاقة،  مجتمع المخاطر، التعايش السلمي، المنظومة الدولية، الأسواق  المفتوحة، الشركات المتعددة  الجنسيات، الشراكة، الخوصصة، التنمية البشرية المستدامة، حقوق الإنسان، الحريات العامة،  الدمقرطة،   الانتقال الديمقراطي ، مجتمع  المعلومة، الاتصال والتواصل،  دولة الحق والقانون، المواطنة، المجتمع المدني، الحكامة الجيدة...

  إن بعد المواءمة  المفاهيمية  يطرح علينا  أهمية  تحديد  وتناول الإشكاليات  المرتبطة  بإحدى أبرز المصطلحات المنتشرة   في وقتنا الراهن،  والتي أضحت تطغى في الساحة الفكرية / المعرفية/  المفاهيمية     إلى درجة "التخمة"، وأخذت  تعتمل  وبقوة   في دواخل الأفراد والتنظيمات والمجتمعات،  ألا وهو مصطلح "الحكامة"، مع ضرورة  الوقوف، وبتمعن  دقيق، أمام السياقات السوسيو تاريخية التي أنشأته  ، وجعلت منه الآن المفهوم الأكثر  بريقا،  رواجا وتداولا على مستوى  سائر الأطروحات التنموية السائدة.  ولعل من أهم الإشكاليات المطروحة على صعيد  هذا المصطلح، هي إشكالية  نقله  إلى اللغة العربية والتباينات المرصودة  بخصوص ذلك : الحكامة، التدبير الجيد،  الحكامة الجديدة،  الحكم الراشد، الحكم الصالح... الشيء الذي  يطرح  صعوبات منهجية جمة  على مستوى إيجاد تعريف موحد، شامل ومعتمد للحكامة.

إن الأبحاث المتعلقة بأصل مصطلح "الحكامة" في اللغة الأجنبية تؤكد على أن له أصل يوناني،  والذي يتجلى  في مفهوم "Kubernan"، بمعنى توجيه و إدارة السفينة "Diriger le navire"، ثم انتقلت الكلمة إلى اللغة اللاتينية تحت لفظ "Gubernan"، لتستعمل في فرنسا خلال القرن  الثاني عشر  كمرادف لفن وطريقة الحكم، حيث اتخذ حينها معنى تقني محض. وفي بريطانيا، فقد اعتمد المؤرخون الانجليز على مصطلح "الحكامة" كإحدى الخصائص المميزة للسلطة الفيودالية، من خلاله تتحدد آليات تنظيمها(1). وقد ولج هذا المصطلح عالم الاقتصاد خلال القرن  التاسع عشر  مع ظهور المقاولة الصناعية، نظرا للحاجة إلى حفظ التوازن الاقتصادي بنهج المراقبة على المستوى الصناعي(2) ،  وذلك عبر ضبط مالية المقاولات، مما شكل أكاديميا مع مرور الوقت فرصة للمصطلح للتوظيف على مستوى سوسيولوجيا اقتصاد المنظمات كإطار مؤسساتي لتحقيق المعاملات المالية. ففكرة "الحكامة"، تتوخى هنا التقليل من تكلفة المعاملات القائمة بين الأشخاص أو المقاولات أو بين المنظمات ذات الطبيعة المختلفة، مع ضمان أسس سياسة فعالة للجميع وتيسير المواءمة مع التغيرات التكنولوجية والهيكلية  والحيلولة دون الوصول إلى أزمة سياسية حادة(3).

وهنا، ينبثق المصطلح الأنجلوساكسوني "Corporate governance"، الذي غالبا ما تتم ترجمته في اللغة الفرنسية ب "حكامة المقاولة" Gouvernance de l’entreprise، حيث يتم استعمال عبارة "حكامة المقاولات الكبرى"(4).

وقد عاود مفهوم الحكامة بالظهور في الحقل الاقتصادي مع  رونالد كاوسي  سنة 1937، والذي استعمله في مؤلفه "The Nature of the Firm"، مؤكدا فيه على أن الرجوع إلى التنسيق التراتبي له الدور الأساسي في توطيد علاقات التعاون الداخلي للمقاولة، مما يسمح لهذه الأخيرة بأن تصبح أكثر نجاعة بالنسبة للعديد من أنواع التبادل وحيث يعمل السوق على التنويع من تكاليف المعاملات (البحث عن المعلومات المرتبطة بالمنتوجات وخلق التنافس بين الممونين، التفاوض و إبرام العقود، مراقبة الجودة، الافتحاص والتدقيق، المعالجة المحاسبتية، المصاريف المالية...)، وحيث فعالية نظام الحكامة من خلال المساطر الداخلية للمقاولة، تنافسيتها المندمجة مع الرجوع إلى المقاربة السيستمية للسوق(5).

وبعد أربعين سنة من ذلك، سيحرص ويليام سان على تطوير نظرية "تكلفة المعاملات"(6) التي تعاملت مع مصطلح الحكامة كمجموع ميكانيزمات التنسيق الهادفة إلى تنظيم النظام الداخلي للمقاولة (حكامة المقاولة) ، وكذا تنظيم العلاقة بين المقاولة وشركاءها القارين (حكامة البنيات)، مما يسمح للعلاقات التعاقدية بالتقليص من حجم تكاليف المعاملات المالية، بما فيها عبئ التنظيم الترابي. 

وقبل ذلك، وبعد أن اختفى مصطلح الحكامة من القاموس السياسي والاقتصادي بأوروبا سيطفو من جديد على السطح في الخمسينيات من القرن الماضي، بطرحه من طرف البنك الدولي(7).
وسيبرز هذا المصطلح بقوة سنة 1989، من خلال تقارير وتوصيات  هذه المؤسسة المالية الدولية،  من حيث اعتباره الإمكانية الفضلى  التي  توفر أسس التنمية الاقتصادية  والاجتماعية ومحاربة كل أنماط الفساد في مجمل الدول النامية،  بما فيها  الإفريقية ، مما أسس لمفهوم "الحكامة" ومكنه من اقتحام حقل العلاقات الدولية عبر المؤسسات المالية الدولية، والتي عملت على تحديد معايير التدبير العام الجيد في الدول التي أضحت خاضعة لبرامج التقويم الهيكلي، الشيء الذي مهد الطريق أمام نشوء الحكامة الشاملة La gouvernance globale، والتي رسخت أبعادها انطلاقا من النظرية العامة  للعلاقات  والمنظمات الدوليةLa théorie générale des relations et des organisations internationales، ليجتاح المصطلح بعد ذلك منظومة القانون الدولي(8) ، خاصة على مستوى التداول المرجعي  في  الأدبيات التنموية، مما جعل مصطلح "الحكامة" على المستوى الدولي يعرف تطورا مفاهيميا معتبرا، وهو التطور الذي ارتبط بالتحولات التي حصلت على مستوى النظام العالمي، وكذا نتيجة تعقد الحاجيات المؤسساتية، والتي أضحى لزوما تلبيتها انطلاقا من استعمال جملة من الأدوات للتعبير وتقييم مضامين وحمولات العديد من الرؤى والسياسات(9) ،ومنها ما هو مرتبط بانبثاقية مفهوم العولمة أو الشمولية، والتي بطبيعة الحال لم تتوان  على جعل مصطلح الحكامة من  أبرز إنتاجات الأدب الحدي La littérature Managèriale، بما فيها حكامة المقاولة(10) التي  حفزت كل المنظمات والمؤسسات  على تعبئة كل  مواردها  المتاحة لتحقيق غاياتها وأهدافها، ومن أهمها التنمية وتجاوز اختلالات مختلف أنماط الحكامة. وبالتالي فمصطلح "الحكامة" من خلال كل ذلك ليس بالمصطلح المحايد وأسباب انشغالاته تجد مرجعيتها وأصلها في الأزمات الصعبة المرتبطة بنموذج التدبير التقليدي(11)، بما فيها تلك المرتبطة باختلالات التدبير المميزة لمختلف أنماط الحكامة.
 مع مرور الوقت، سيعرف  استعمال مصطلح  الحكامة توسعا ملحوظا، إذ سرعان ما انتقلت استخداماته  إلى مجالات متشعبة  في  تدبير الفعل العمومي،  وذلك  من منطلق  التوسل بمناهج  متعددة وصيغ متنوعة.   على ضوء  هذا السياق الوظيفي  للحكامة ، كثيرا  ما يلاحظ  تواجد  عناصر مشتركة  تشكل  في جوهرها الأساس  التيمولوجي  لهذا المصطلح  الذي أضحى يوما بعد يوم مصطلحا "شبائكيا" ،  ومن أبرز هذه العناصر، نجد مثلا :
* علاقات التنسيق والتداخل والتفاعل بين  أطراف متعددة.
* الطرائق  الناجعة لضمان المساهمة الفضلى في إعداد وتنفيذ وتقييم وتقويم السياسات العامة.
 *العمل على  وضع تصورات  ورؤى  استراتيجية /  استشرافية/ تشاركية،  تشمل  سائر أنماط التدبير العمومي والخاص والمدني 
                                                                                
 * ضرورة التأسيس لقواعد من التوافق الإيجابي بين جميع  الفاعلين في صيرورة التنمية.
 هكذا، يظل مصطلح الحكامة مصطلحا  حربائيا /عائما، والعديد من جوانبه غامضة /ملتبسة، سواء على مستوى السياسات العامة أو  على مستوى الإدارة ، مركزية كانت أو محلية ، أو على  مستوى مختلف العلاقات  القائمة بين الدولة والأجهزة  المتفرعة عنها والجماعات  الترابية  وتنظيمات القطاع الخاص، ومؤسسات الفعل المدني، مما يجعله مصطلحا  ينبثق كطريقة فضلى  في التدبير والتسيير،  وفق معايير متطورة  ومبادئ  متجددة،  بيد  أنه  مع ذلك يمكن التأكيد، على  أن هذه الطريقة  تظل  قاصرة  الأبعاد إن لم يكن هناك  مدبرين  للشأن العام أو الخاص أو المدني متشبعين  بثقافة  التدبير  الجيد،  كما أن عكس ذلك  قد يشكل  كوابح  موضوعية  أمام التنزيل الفعلي والفعال  لمصطلح الحكامة  على أرض الواقع  العملي وعلى مستوى الممارسة الميدانية.
إن مفهوم "الحكامة"،  ورغم أنه لم يكن محط إجماع مختلف الفاعلين، فإنه يمكن القول بصفة عامة أنه مفهوم يحمل في طياته بعدين هامين(12):
*               البعد الأول: يتمثل في الأدبيات الكثيرة المنبثقة عن المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، خاصة البنك الدولي الذي ركز على المسائل الاقتصادية للحكامة.
*               البعد الثاني: يعطي أهمية للجانب السياسي ويركز على إشكالية الإصلاح السياسي المؤسس عادة على القيم الديمقراطية كما هي معروفة ومكرسة في الدول المتقدمة.
 ومع ذلك، فإن التركيز على البعد الاقتصادي لمفهوم"الحكامة" لم يدم  لردح  طويل،   إذ أنه وعقب موجة التحول الديمقراطي التي اجتاحت  دول أوروبا الشرقية أواخر حقبة الثمانينيات بدأ التركيز بالأساس على البعد السياسي، وليتم  استخدام هذا المفهوم على نطاق واسع خلال عقد  التسعينيات ، مسجلا بذلك  نقلة  إتيمولوجية تاريخية، إذ انتقل من التداول المرجعي على الصعيد الدولي إلى التداول الواسع على الصعيد الوطني. ومن ثم،  سيتمكن  مصطلح "الحكامة" من الانغراس أكثر في الذوات والمؤسسات، مع بداية الألفية الثالثة، باعتباره " مصطلح القرن" والمنقذ والمعالج لكل الاختلالات، وبالتالي الضامن لمسارات التطور ولصيرورات التقدم.
الإحالات :
(1)   Bernard Cassen « Le piège de la gouvernance » Le Monde Diplomatique N°76. 2001. P28.
(2)  Mohamed Harakat « Le piège de la gouvernance », Revue Marocaine d’Audit et de Développement. N°19. 2004. P11.
(3)   Mohamed Mhamdi « Gouvernance et Environnement » Revue Marocaine d’Administration Locale et Développement » N°65, Novembre 2005. P36. 
(4)   « Du Gouvernement à la Gouvernance : les leçons Marocains » Publication REMALD. Série :Management Stratégique N°5. 2004. P9.
Mohamed Mhamdi ,Op,cit,P36. (5)   
(6)   للمزيد من التفاصيل حول محتوى هذه النظرية يراجع:
William San” Transaction Coast economics, the governance of contractuel relations’’ Journal of Lows and Economics Vol XII.N°2.Décembre 1977.P50.
 (7)   Mohamed Harakat. « Le piège de la gouvernance » Op.cit P11.
                                                                                       (8) Abdelhak Janat iIdrissi « Dimensions gestionnaires politique, doctrinale et juridique de la bonne gouvernance en du gouvernement à la gouvernance : les leçons Marocains », Publications de la REMALD Série Management Stratégique N°5. 2004. P2.
(9)   Mohammed Harakat « Le concept de gouvernance au Maroc, signification et pertinence » Dans « Du gouvernement à la gouvernance », Op.cit P 7.
Abdelahk Janat iIdrissi  . Op.cit P 2. (10)   
(11)   « Gouvernance et accélération de développement au Maroc » Rapport de développement humain 2003. PNUD ,P32.
(12) Wafae Fares  « Du gouvernement A La gouvernance : Etude D’un Concept Ambigüe » Revue MASSALIK. N°8. 2008. P5.  
انضموا إلى قائمة متابعينا على فيسبوك لتكونوا قريبين من جديد الموقع من خلال الضعط على زر الإعجاب

انشرها على:

مقالات وبحوث

أضف تعليق:

0 التعليقات:

هل لديك أي استفسار؟تحدث معنا على الواتساب
مرحبا، كيف أستطيع مساعدتك؟ ...
... انقر فوق لبدء الدردشة