خطاب جلالة الملك في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية : التركيز على التنمية المتوازنة والمنصفة وربط المسؤولية بالمحاسبة
وبصفتنا الضامن لدولة القانون، والساهر على احترامه، وأول من يطبقه، فإننا لم نتردد يوما، في محاسبة كل من ثبت في حقه أي تقصير، في القيام بمسؤوليته المهنية أو الوطنية ،كما نوجه المجلس الأعلى للحسابات، للقيام بمهامه في تتبع وتقييم المشاريع العمومية، بمختلف جهات المملكة. إننا لا نقوم بالنقد من أجل النقد، ثم نترك الأمور على حالها. وإنما نريد معالجة الأوضاع، وتصحيح الأخطاء، وتقويم الاختلالات".
مقدمة
ان التنزيل السليم لقواعد الشفافية و التدبير الحكماتي و ربط الوظائف العملية بمبد اربط المسؤولية بالمحاسبة،يقتضي إعمال جميع الآليات القانونية و القضائية بما فيها تلك الإدارية إعمالا صحيحا يتناسب و الأدوار الموكولة للجهات الساهرة على تنفيذها بمقتضي القوانين و التشريعات المعمول به وعلى غرار الدول المتطورة، عمل المشرع المغربي، ولأجل إحقاق سيادة القانون وربط المسؤوليات بالمحاسبة،على الارتقاء بالمجلس الأعلى للحسابات و المجالس الجهوية للحسابات إلى مصاف المؤسسات الدستورية التي تضطلع بدورا لمساهمة الفعالة في عقلنة تدبير الأموال العامة وممارسة وظيفتها بشكل كاملن كمؤسسات عليا للرقابة مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذي.وهكذا أوضح الباب العاشر من الدستور،بأن المجلس الأعلى للحسابات يتولى ممارسة الرقابة العليا على تنفيذ القوانين المالية، ويبذل مساعدته للبرلمان والحكومة في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون،ويرفع إلى جلالة الملك بيانات جميع الأعمال التي يقوم بها في إطار تقريره السنوي،وفضلا عن ذلك، وفي إطار سياسة اللامركزية، نص الدستور في الفصل 149على إحداث المجالس الجهوية للحسابات المكلفة بمراقبة حسابات الجماعات الترابية وهيئاتها وكيفية قيامها بتدبير شؤونها،حيث تم تتويج المقتضيات الدستورية المذكورة بإصدار القانون رقم 99-62المتعلق بمدونة المحاكم المالية بتاريخ 13يونيو 2002 ،الذي بموجبه تم توضيح الوظائف المخولة للمحاكم المالية بهدف تأمين ممارسة رقابة مندمجة وإقامة أفضل توازن في مسؤوليات الخاضعين للرقابة وبالتالي الوصول إلى نظام عقوبات ومتابعات أكثر عدلا وإنصافا لهم.
ولما كان المشرع المغربي يهدف بتلك الترسانات القانونية المنظمة لرقابة المحاكم المالية للمؤسسات و المرافق العامة بما فيها الإدارات الترابية يهدف من خلالها إرساء معالم الشفافية و المسؤولية واستقرار المعاملات ، نتساءل طبيعة و إلزامية قرارات و توصيات تلك المؤسسات الدستورية و هي تمارس مهامها ببسط رقابتها على المال العام من جهة، ومن جهة ثانية شمول رقابتها عن الكيفيات و آليات التدبير الإداري المتعلقة بتسيير و تدبير تلك الأجهزة لأعمالها و فق ما يتطلبه القانون ؟
المبحث الأول: الطبيعة القانونية لمؤسسة المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات ومجالات وأدوات تدخلها
إن الرقابة الممارسة من قبل المحاكم المالية ،تهم الرقابة القضائية على مدى قانونية العمليات المالية ومدى مطابقتها للنصوص (البث في الحسابات، التسيير بحكم الواقع والتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية)،ومراقبة التسيير المرتكز على تقييم نتائج أداء الوحدات المراقبة من حيث الفعالية والاقتصاد والكفاية.ولما كان المطلوب هو التنفيذ الجيد للمشاريع التنموية المبرمجة،التي تم إطلاقها فقد ثم إيجاد حلول عملية وقابلة للتطبيق للمشاكل الحقيقية، وللمطالب المعقولة، والتطلعات المشروعة للمواطنين، في التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها مع تعزيز آليات الحكامة الجيدة، وتخليق الحياة العامة، ومحاربة الفساد، بإحداث منظومة مؤسسية وطنية منسجمة ومتناسقة في هذا الشأن وذلك من خلال تعزيز دور المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات في مراقبة المال العام، وفي ترسيخ مبادئ الشفافية والمسؤولية والمحاسبة، وعدم الإفلات من العقاب،
فالمجلس الأعلى للحسابات هو الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة،ويضمن الدستور استقلاله،فهو بذلك يمارس مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة،بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية.كما يتولى ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية، ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها،ويتخذ عند الاقتضاء عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة،هذا و تُناط به مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات،وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية،وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية 147 من الدستور، كما يضيف الفصل 148 من الدستور مهام أخرى لهذه المؤسسة،تتجلى في مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة ؛والإجابة عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة.يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للهيئات القضائية. كما يقدم مساعدته للحكومة،في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون.وينشر المجلس الأعلى للحسابات جميع أعماله، بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية،و يرفع للملك تقريرا سنويا،يتضمن بيانا عن جميع أعماله،حيث يوجهه أيضا إلى رئيس الحكومة،وإلى رئيسي مجلسي البرلمان، وينشر بالجريدة الرسمية للمملكة،كما يُقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان،ويكون متبوعا بمناقشة.
هكذا، وبعد استقراء الفصلين 147 و 148من الدستور و بالرجوع لأحكام القانون رقم 9-62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية ،و على غرار الأجهزة العليا للرقابة على المالية العامة في الدول التي تعتمد النموذج القضائي،يمكن القول أن المجلس يتولى ممارسة نوعين من الاختصاصات ينظمهما القانون رقم 99-62المتعلق بمدونة المحاكم المالية،وهي اختصاصات قضائية تتجلى في التدقيق والبت في حسابات الأجهزة العمومية المدلى بها من طرف المحاسبين العموميين أو المحاسبين بحكم الواقع، وفي التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية،واختصاصات غير قضائية، تتمثل في مراقبة تدبير المؤسسات والأجهزة العمومية ألجل تقديره من حيث الكيف واقتراح الوسائل الكفيلة بتحسين طرقه والزيادة في فعاليته ومردوديته ومستوى أدائه، وكذا مراقبة استخدام الأموال العمومية،وعليه فان الطبيعة القانونية لمؤسسة المجلس الأعلى للحسابات وكذلك المجالس الجهوية للحسابات،و انطلاقا من القوانين المنظمة لاختصاصاتها لا تخرج من كونها إما ذات إداري او طابع قضائي،فالطبيعة القضائية لاختصاصات المجلس تتمثل في تدقيق المجلس الأعلى للحسابات لحسابات مرافق الدولة،وكذا حسابات المؤسسات العمومية والمقاولات التي تملك الدولة ،أو المؤسسات العمومية رأسمالها كليا أو بصفة مشتركة بين الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية ، إذا كانت هذه الأجهزة تتوفر على محاسب عمومي، من خلال إلزام المحاسبون العموميون للأجهزة العمومية بأن يقدموا سنويا إلى المجلس، الحسابات أو البيانات المحاسبية وفق الكيفيات المقررة في النصوص الجاري بها العمل، ويبت المجلس الأعلى للحسابات في الحساب أو البيان المحاسبي بقرار تمهيدي ثم بقرار نهائي،علاوة على اختصاصه في مجال تصفية الحسابات والبت فيها، يمارس المجلس الأعلى للحسابات وظيفة قضائية اتجاه كل شخص يتدخل دون أن تكون له صفة محاسب عمومي، في تدبير الأموال العامة سواء عن طريق التحايل على القانون أو عن جهل، فيصبح بالتالي محاسبا بحكم الواقع ،كما يمارس المجلس الأعلى للحسابات وظيفة قضائية في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية اتجاه كل شخص أو موظف أو عون أحد الأجهزة العمومية الخاضعة لرقابة المجلس، يقترف إحدى المخالفات المنصوص عليها في مدونة المحاكم المالية وذلك في حدود دائرة اختصاص كل واحد منهم. ويتعرض المعنيون بالأمر للعقوبات المقررة لتلك المخالفات،كما يبت المجلس في طلبات استئناف الأحكام الصادرة بصفة نهائية عن المجالس الجهوية.ويبت المجلس في هذه القضايا من خال إصدار قرارات سواء بعدم مؤاخذة الأشخاص المتابعين أو الحكم عليهم بغرامات مالية، وعند الاقتضاء، بإرجاع الأموال المطابقة للخسارة التي تسببت فيها المخالفات المرتكبة، طبقا للمادة 66 من مدونة المحاكم المالية.
آما الاختصاصات التي يمارسها المجلس و التي لا تتصف بطابع الاختصاص القضائي،و التي بمكن القول أنها ذات طبيعة إدارية ،فتتجلى في مراقبة المجلس لتسيير المرافق والأجهزة العمومية التي تندرج ضمن دائرة اختصاصاته لتقييم جودته وتقديمه، إن اقتضى الأمر ذلك، اقتراحات حول الوسائل الجديرة بتحسين طرقه والزيادة في فعاليته ومردوديته. وتهم المراقبة كافة مظاهر التدبير. ويمكن للمجلس القيام بمهام تقييم المشاريع العمومية بغية التأكد من المنجزات المحققة،وبلوغ الأهداف المسطرة لكل مشروع، بالنظر إلى الوسائل المرصودة له.
المبحث الثاني: القوة الملزمة لتوصيات المجلس الاعلى و المجالس الجهوية للحسابات
طبقا للفصل 147 من دستور المملكة، يعتبر المجلس الأعلى للحسابات الجهاز الأعلى للرقابة على المالية العامة ببلادنا حيث يتحقق من سالمة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون،ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.كما يبذل مساعدته للبرلمان والحكومة والسلطة القضائية.
إن التنظيم القانوني لمؤسسة المجلس الأعلى للحسابات ،منظم بمقتضيات الدستور،وخاصة الفصلين و 147و148 منه،و القانون رقم 79/12 المتعلق بالمجلس الأعلى للحسابات الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 175/79/1 بالإضافة إلى مقتضيات مواد القانون رقـم 99/62 المتعلـق بمدونة المحاكـم المالية، والصادر بتنفيذه الظهير الشريـف رقم 124/02/1،وحيث إن تقدير مدى القوة الملزمة لتوصيات و قرارات المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات في علاقتها بالإدارة و المؤسسات العمومية موضوع رقابة المجلس الأعلى للحسابات يرجع في تحديده أولا إلى النظر في طبيعة هذه المؤسسة ومجالات وأدوات تدخلها، باعتبارها مؤسسة قضائية مستقلة ومتخصصة تتولى الإسهام في ترسيخ سيادة القانون وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف والعمل على نشر قيم التخليق والشفافية في تدبير المرافق العمومية بما فيها المؤسسات العمومية والسهر على تنمية تواصل فعال بين الأشخاص والإدارات العمومية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العامة وباقي المنشآت والهيئات الأخرى الخاضعة للمراقبة المالية. ولما كان مناط تدخل هذه المؤسسة يتحدد فيما تكشف عنه الشكايات و التقارير المقدمة أمامها من حالات يثبت فيها تضرر الأشخاص من تصرف صادرعن الإدارة يكون مخالفا للقانون او ثبوت مخالفات لقواعد التدبير الجيد من الناحية المالية او الإدارية ، خاصة إذا كان متسما بعدم المصداقية و الشفافية أو منافيا لمبادئ الحكامة الجيدة واستقرار المعاملات كما تقضي القوانين و الأنظمة المعمول بها،فإن التوصيات التي يصدرها هذا الأخير بما فيها قراراته القضائية تستمد قوتها الإلزامية بداية من إلزامية القانون ذاته، ما دام أنها تهدف لإعادة تصرفات الإدارة إلى دائرة المشروعية والتقيد بالقانون الذي يبقى ملزما لأشخاص القانون العام وأشخاص القانون الخاص على السواء،عن طريق تصحيح الخلل الذي اعترى عملها من خلال تعيين الإجراءات الكفيلة بتحقيق ذلك،ولهذا جاءت المادة 148 صريحة في مدى إلزامية توصيات وقرارات المجلس الأعلى حيث جاء فيها كونه يتولى مهمة ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية.ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة. وهو نفس المقتضى الذي يدعمه الفصل 149 من الدستور بالنسبة للمجالس الجهوية للحسابات في الدلالة على الطابع الملزم لهذه التوصيات من خلال صيغته التي نصت على أنه- تتولى المجالس الجهوية للحسابات مراقبة حسابات الجهات والجماعات الترابية الأخرى وهيئاتها،وكيفية قيامها بتدبير شؤونها.وتعاقب عند الاقتضاء،عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.كما أن المادة 31 من القانون رقم 12.79 المتعلق بالمجلس الأعلى للحسابات توجب أن يتم توجيه المستندات المثبتة إلى المجلس الأعلى للحسابات كل ثلاثة أشهر.غير أن توجيه المستندات لأول مرة يجب أن يتم عند انصرام الثلاثة أشهر الموالية للثلاثة أشهر التي نشر خلالها هدا القانون بالجريدة الرسمية. بالإضافة إلى ذلك يجب أن يبلغ المحاسبون إلى المجلس عن طريق السلم الإداري جميع الملاحظات التي يرون أنه قد يستنير بها. وبحسب الفصل 80 من قانون 12.79 ،يمكن في جميع القضايا أن يقدم الرئيس ملاحظاته واقتراحاته إلى الوزراء والمسؤولين الآخرين عن الأجهزة الجارية عليها مراقبة المجلس بواسطة مذكرات أو قرارات مستعجلة. ويخبر بالإجراءات المتخذة بشأنها التي تضمن عند الاقتضاء في تقارير المجلس، ويلزم الموجهة إليهم القرارات المستعجلة بالإجابة عنها في أجل ستين يوما كما يلزم الموجهة إليهم المذكرات بالإجابة عنها في أجل ثلاثين يوما،ويوجه رئيس المجلس إلى وزير المالية نسخة من القرارات المستعجلة والأجوبة عنها،وفي كل وزارة يكلف موظف بالإدارة المركزية يبلغ تعيينه إلى المجلس الأعلى للحسابات السهر على الإجراءات المتخذة بشأن مذكرات الرئيس وقراراته المستعجلة. فبحسب المادة المذكورة تم تحديد الأجل الذي "يتعين" على الإدارة القيام خلاله بالإجراءات اللازمة للنظر فيها، وألزمتها أن تخبر المجلس الأعلى و المجالس الجهوية كتابة بالإجراءات حيث إذا لم يقدم أحد المحاسبين الحسابات أو المستندات المثبتة إلى المجلس في الآجال المقررة بحيث اذ لم تحترم تلك الآجال،جاز للرئيس أن يحكم عليه بالتماس من الوكيل العام للملك بغرامة لا يتجاوز مبلغها خمسمائة درهم كما يجوز له أن يوجه إليه أوامر بتقديم الحسابات أو المستندات وأن يحكم بالغرامة التهديدية المقررة في الفضل 39 بعده، كما أن توصيات وقرارات المجلس الأعلى و المجالس الجهوية ،تستمد هذه القوة كذلك من اعتبار الشكوى التي تفتح باب إصدار المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات لتوصياته، ليست طلب مساعدة أو إحسان، بل هي حق في إطار علاقة المواطن بالدولة من جهة و من جهة أخرى تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة و قواعد الشفافية و الحكامة الرشيدة،لذا فليس للإدارة العامة أن تمتنع عن الاستجابة لمبادرات وتوصيات المجالس إذا ثبت خطأها أو وجود خلل في عملها،لأنّ غاية كل من الإدارة العامة ومؤسسة المجلس الأعلى هي تحقيق المصلحة العامة، لما في ذلك من حفظ للحقوق وترشيد لعمل الإدارة الحكومية بشكل يساعد على تطور عملها، وإعطاء كل ذي حق حقه. فعندما تخالف الإدارة المنظومة التشريعية العامة للدولة،ويثبت عدم امتثالها للقانون فإنّ قرار المجلس الأعلى يكون ملزما لها مهما كان شكله،كما أن هذه المؤسسة جاءت لتعزيز مفهوم جديد وحضاري للتدبيرالحكماتي الجيد واستجابة لضرورات النزاهة والشفافية في العلاقة بين المواطن والإدارة العامة،وحيث من جهة أخرىّ،فإن الطابع الملزم لتوصيات وقرارات المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات يدل عليه كذلك ما منحه المشرع لهذا الأخير من آليات لتتبع تنفيذ الإدارة للإجراءات والتدابير التي نصت عليها توصياته،من خلال إلزامها بإخبار المؤسسة كتابة بالقرارات والإجراءات التي اتخذتها بشأن هذه التوصيات مع تقييدها بالآجال القانونية قصد تنفيذها،ولهذه الغاية أوجبت القانون إلزامهم بإنجاز تقارير توجه إلى رئيس الحكومة بشأن تنفيذ التوصيات المذكورة، مما يجعل إقرار المشرع لهذا الإطار المؤسساتي القائم على التنسيق والتعاون والتكامل بين جهاته قصد التقيد بالتوصيات، مؤشرا على اتجاه قصده إلى توفير أكبر ما يمكن من الإمكانات حتى ترتب هذه التوصيات آثارها الواقعية والقانونية على مستوى العلاقة بين الإدارة والمتضررون نشاطها، بغية إعادة التوازن لهذه العلاقة على أساس المشروعية أو قواعد العدالة الإنصاف،و يتعززهذا الإطار المؤسساتي بإقرار آلية تواصلية مباشرة بين رئيس الحكومة و المجلس الأعلى للحسابات ،من خلال إخباره من طرف هذا الأخير بحالات امتناع الإدارة عن الاستجابة للتوصيات باعتباره رئيسا للجهاز الإداري له صلاحية التدخل في إطار التسلسل الرئاسي للأمر بما يراه كفيلا بتنفيذ الإجراءات الموصى بها ،وحيث إنه تأسيسا على ما سبق، فإن توصيات وقرارات المجلس تكون ملزمة لجميع الأطراف، بيد أن طبيعتها الإلزامية ليست فورية الأثر كما هو الحال بالنسبة للقرارات الإدارية أو القضائية،بل هي متراخية التنفيذ وتتحقق إلزاميتها بشكل غير مباشر، فهي تتبع مدى تعاون الإدارة من عدمه، ففي حال تعاون الإدارة المعنية يرتبط تنفيذ تلك التوصيات و القرارات بإجراءات الإدارة ذاتها وظروف عملها والإمكانيات المتاحة لها، وفي حال عدم تعاونها فإن تنفيذها يتم عبر إحالة الأمر على رئيس الحكومة الذي يقع عليه واجب الحرص على تطبيق توصيات و قرارات المجلس الأعلى للحسابات و ردع من يمتنع عن ذلك ،واتخاذ الإجراء المناسب بحق تلك الإدارة حتى تمتثل للتوصيات المشار إليها، بما في ذلك توقيع الجزاء التأديبي،إذ ينص القانون على أن رئيس الحكومة يمكنه أن يتخذ جميع "الجزاءات" والتدابير اللازمة بعد إحالة المجلس للتقارير المثبتة لعرقلة الإدارة لعمله أو تهاونها في الجواب على اقتراحاته وتوصياته، مما يجعل تدخل رئيس الحكومة يعزز الطابع الإلزامي للتوصيات التي تستمدها في هذه الحالة من إلزامية التعليمات الرئاسية التي يصدرها في شأن التقيد بهذه التوصيات، كما إنه بالنظر للطابع الإلزامي لتوصيات. وقرارات المجلس كما تم بسطه أعلاه،فإن امتناع الجهات المعنية بتوصياته و قراراته عن التقيد بها ،وتنفيذ الإجراءات الموصى بها ،يشكل خطأ مرفقيا يرتب مسؤوليتها ما دام أن ذلك ينطوي على إصرارها على مواصلة الخرق القانوني أو الاعتداء على حقوق الأشخاص أو الإضرار بهم بالصورة التي كشفت عنها توصية أجهزة الرقابة ،هذا وأن المحكمة الإدارية عند نظرها في المسؤولية الإدارية للإدارة الممتنعة عن تنفيذ تلك التوصيات وبالنظر لاحتمال مجانبة هذه التوصية للصواب، فإنها تبسط رقابتها على التصرف الذي كشفت التوصية عن عدم مشروعيته أو مخالفته لقواعد العدالة والإنصاف لتقدير ما إذا كان ينطوي على خطأ في جانب الادارة المعنية،حتى ترتب مسؤوليتها عن ذلك، من منطلق أن السلطة القضائية هي حصن المشروعية والحامية لحقوق وحريات الأشخاص وأمنهم القانوني بمقتضى الدستور،ولا يمكن أن تقضي بترتيب آثار توصية معين إلا بعد التثبت من مطابقتها للقانون والتأكد من أن تنفيذها لن يخل بالمشروعية،إذ أن عدم منح المشرع للمجلس الأعلى للحسابات و المجالس الجهوية الأدوات التي يتحقق بها التنفيذ الجبري المباشر لتوصياته،يجعل إلزامية هاته الأخيرة لا ترتب بذاتها الآثار الناتجة عنها رأسا في مواجهة الإدارة إلا من خلال الآليات التي تسخرها الإدارة نفسها في إطار تقيدها بهذه التوصيات بالنظر للإمكانات المتاحة،أو بتفعيل رئيس الحكومة لسلطاته الملزمة في حدود ما هو منصوص عليه تجاه الإدارة الممتنعة عن التنفيذ، أو باللجوء للسلطة القضائية التي ترتب آثار الإلزام المذكور في مواجهة الإدارة لكن بعد التثبت من تحقق إخلالها المستند إليه في التوصية.
خاتمة
إن الاختلالات التي يعاني منها تدبير الشأن العام ليست قدرا محتوما،كما أن تجاوزها ليس أمرا مستحيلا،إذا ما توفرت الإرادة الصادقة، وحسن استثمار الوسائل المتاحة. ولما كان تكريس سيادة القانون يبقى التزاما على عاتق الدولة، وكان من صلاحيات رئيس الحكومة باعتباره رئيسا للجهاز الإداري التدخل قصد ضمان تنفيذ توصيات وفرارات مؤسسة المجلس الأعلى و المجالس الجهوية للحسابات،باتخاذ الإجراءات وتوقيع الجزاءات اللازمة في مواجهة الجهة الإدارية الممتنعة طبقا للقانون، فإن مسؤولية الدولة عن عدم تنفيذ توصيات و قرارات المجلس الأعلى للحسابات تبقى قائمة بالتضامن مع الجهات و المؤسسات المعنية بها، ما دام لم يثبت اتخاذ رئيس الحكومة لأي إجراء في مواجهة تلك الأجهزة بغرض تنفيذ التوصيات المذكورة، أو اتخاذ أي تدابير،خاصة وأن التوصيات الصادرة بشأن أي خرق نجدها مُتَضَمَّـنَة في التقارير الدورية و السنوية الذي يرفعها المجلس المملكة إلى جلالة الملك.
انضموا إلى قائمة متابعينا على فيسبوك لتكونوا قريبين من جديد الموقع من خلال الضعط على زر الإعجاب